شارك
|

أبو مصطفى.. ناطور الحنين

تاريخ النشر : 2016-08-24

لا تبدو الحياة مستعجلة في سيرها، حول وحيال دار السعادة للمسنين، البناء الفخم الذي يمدّ لسانه الرخامي وكأنه “يجاكر” الكتل الإسمنتية التي تطل عليه من منطقة مخالفات سكنية جاورته، وعلى باب الدار الذي يعتبر بمنزلة فندق خمس نجوم لنزلاء تجمع بينهم صفة واحدة لأنهم جميعاً مسنّون، يجلس العم “أبو مصطفى” -71- عاماً- الصورة – الذي تجمعه بالنزلاء الصفة ذاتها وكأنه شجرة  تحرس هذا المكان.


ملامح الكهولة البادية على محيّا السيد “سليم يتيم” لا تخبر عن الهمة العالية التي يبديها في عمله، سواء أكان في سقايته للنباتات والأشجار التي تحيط بباحات الدار، أم في كونه ناطوراً للدار الذي يقطنه نزلاء من علية القوم.
حديثه اللطيف عن نزلاء الدار يوحي بأن بينهم  عشرة عمر “الناس هنا جميعهم طيبون” فهو يحزن لحزنهم ويؤلمه أن يرى أحداً منهم مريضاً.


يحمل السيد يتيم في قلبه ذكريات محزنة عن أناس دخلوا الدار أحياء وجمعت بينهم صداقة طيبة، قبل أن يخرجوا منها بعد أن ودّعوا الحياة “لا يمر يوم إلا وتعود ذكرى أحدهم إلى خاطري، البارحة كان أبو حسام يريد أن نلعب دقّ طاولة، وأبو نبيل يطلب سماداً خاصاً لنبتته التي تحيا معه في غرفته، أما اليوم..” سكت أبو مصطفى عن الكلام، وصوت تنهيدته التي شقّت صدره، كرج فوق البلاط اللامع.


ستة أبناء جادت بهم الدنيا على حياة هذا الرجل، هم أغلى ما لديه، وهم مصدر فخره “أولادي والحمد لله درسوا ونالوا علمهم أيضاً من مدرسة الحياة، وهم أثمن ما مَنّ الله به عليّ”.


تلتمع عيناه بمحبة عميقة عندما يتحدّث عن شريكة عمره “أم مصطفى” التي شاركته حلو الحياة ومرّها، وترتسم ضحكة قلبية كبيرة على وجهه عندما يذكر عنايتها به “أم مصطفى هي تاج الرأس، فالسنين الطويلة التي جمعتنا كزوجين لم تزدني إلا حبّاً بها، وبلطفها القادم من بيارات وكروم” يعني يا عم ألَم تجد المشكلات الزوجية طريقها إليكما؟ “بالطبع فهذه طبيعة الحياة الزوجية، إلا أن غلاوتها على قلبي تزيل كل الهموم” قال أبو مصطفى.


المفارقة التي لن تبدو شاذة عن القاعدة العامة للحياة، تبدو هنا نافرة وبقوة، فالرجل السبعيني الذي يقوم بعمل مرهق، يحيا في المكان ذاته الذي يحيا فيه مَن هم في عمره، مع فارق وحيد بينه وبينهم، هو أنه يعمل ويشقى ليعيل نفسه وأسرته، رغم أنه في العمر ذاته الذي يحتاج فيه إلى من يعتني به، أليست مفارقة ساخرة فعلاً؟!


ما يؤلم أبا مصطفى بشدة هو الحال التي وصلت إليها البلد التي عاش فيها وربت فيها روحه وذكريات عمره “سورية أم الكل وست الخير، حرام ما حصل فيها، قلبي يتمزّق حزناً على حالها وربوعها وخلانها”.


هو الذي اعتاد أن يأتي إلى عمله صباحاً ويعود منه ظهراً طوال سنوات، يضحك متفاجئاً عند سؤاله إن كان يريد أن يترك عمله ويتقاعد من هذه الدار كحال المقيمين فيه قائلاً “عملي هنا وهنا تقاعدي، لن أتركه”.

 

لمى نديم ابراهيم . البعث


عدد القراءات: 11408