طور الفنان والمطرب ذياب مشهور الذي رحل أمس الفن التراثي السوري وأغناه، وكان أحد المطربين الكبار الذي تلقى التراث، وأعطاه روحاً جديدة تماشت مع زمانه.
مشهور الذي ولد في قرية الموحسن بريف دير الزور سنة 1946 أحد أوائل المطربين الذين قدموا الغناء الفراتي، لا في سورية وحدها بل في العراق أيضاً، إذ تأثر برائد في الغناء العراقي اسمه حضيري بو عزيز صاحب “عمي يا بياع الورد”، ثم بناظم الغزالي ليختط لنفسه بعد ذلك أسلوباً مستقلاً مظهراً الاختلاف بين اللونين الفراتي والعراقي لجهة أن الأول أخف و أوضح.
لقد كانت طفولة ذياب شاقة وصعبة إذ عانى الفقر والحرمان ولم يتسنَ لوالده أن يدخله في مدرسة فنشأ أمياً، وكثيراً ما كان يطوف في أرجاء القرية حافي القدمين وهو يغني مواويل وعتابات فيطرب له الناس، ما حدا برفاقه ليدعوه ليغني في الأعراس وحفلات الزفاف.. كان مشهور يردد كيف يتلقى “علقة” ساخنة من والده المحافظ في كل مرة كان يضبطه فيها وهو يغني، لأن الغناء بنظره حرام رغم أنه كان يؤدي العتابات على الربابة ولكنه ينهى ابنه عن تقليده لأن موال العتابا برأيه يورث الفقر.. وكان من اللافت أن أستاذ مشهور الأول في الغناء والموسيقى؛ موسيقي ضرير من دير الزور اسمه يوسف الجاسم، حيث درسه الفن سماعياً، ولقنه ضروب المقامات بدرجاتها والانتقال فيما بينها.
وظلت المرارة ومشاق الحياة طابعاً وسم جلّ رحلة مشهور مع الغناء، فبعد أن أسس ورفاقه نادياً للموسيقى في دير الزور، تنقل بين سورية والعراق ليعرض صوته وفنه على الإذاعات، وظل يروي كيف نام في الحدائق العامة واقترض ليتمكن من السفر، ويعيش على الخبز الحاف ليسد رمقه، ويعمل في مهن شتى من صنع القهوة إلى القصابة إلى عمارة البيوت وبيع السلع.
غير أن عام 1969 كان موعد مشهور مع النجومية، إذ اعتُمد مطرباً في إذاعة دمشق من خلال لجنة ضمت كبار الموسيقيين وهم نديم الدرويش وعزيز غنام وعمر النقشبندي، ولكن ذلك لم يتحقق لولا تزكية الموسيقار الراحل عبد الفتاح سكر، الذي ساهم بإطلاق نجوم سوريين غزوا الوطن العربي، أمثال فهد بلان وموفق بهجت.. ومشهور الذي كانت موهبته أكبر من واقعه، حصل على النجومية بضربة واحدة، ، إذ بعد أن عرض عليه سكر المشاركة في حفلة وتقديم أغنية من اللون الفراتي الذي يتقنه، قدم (طولي يا ليلة) التي جعلت منه مطرباً من الدرجة الأولى، لقد تماهى اللحن الشعبي الراقص السريع مع ظاهرة اقتباس التراث في الموسيقى السائدة في مصر وسورية ولبنان نهاية ستينيات القرن الماضي.. والواقع أن ثمة جدالاً حول أحقية مشهور في الأغاني التي قدمها، فهناك باحثون أمثال أحمد بوبس ينسبون أعماله للتراث، بينما كان مشهور يؤكد أنها من تأليفه وتلحينه، والواقع أن هذه الأغاني لم نسمع مطرباً آخر قدمها قبل مشهور، فهو على الأقل طورها واعطاها لبوساً مختلفاً مع توزيع دمج التخت الشرقي الكلاسيكي و آلات شعبية كالمجوز والطبلة الصغيرة.
وأخذت نجومية مشهور مداها الأوسع عندما دعاه المخرج الراحل خلدون المالح للمشاركة في مسلسل (صح النوم) بجزأيه ثم بمسلسل (ملح وسكر) مع الثنائي دريد ونهاد، لقد قدم مشهور في هذه المسلسلات أغاني (عالمايا ويا بوردين وميلي علي ميلي)، وكان يروي كيف يعطي اللحن سماعياً لسكر الذي يقوم بتنويته ليؤديه مع الفرقة بعد ذلك.
طاف مشهور بأغانيه أقطار العرب لاسيما في دول الخليج حيث لقي شعبية عارمة ثم إلى دول المهجر والاغتراب، وعلّم نفسه القراءة والكتابة من خلال تصفح الجرائد والمجلات، ولأنه كان ينتج أعماله فلقد أنفق كل ما لديه ليوصل اللون الفراتي إلى العالم العربي كرسالة فنية عاهد نفسه أن يحملها، ليحقق بصمته.. وصفها في سنواته الأخيرة بقمة النجاح، لأن الكثيرين أخذوا يرددون أغانيه لبساطتها ووضوح كلامها وملامحها حتى إن الأطفال غنوها، وكانت بوصلته التراث ببساطته وقربه من الناس.
ظل مشهور وفياً لخطه وللونه، حتى عندما تقدمت به السن وتراجع ذلك المد الحماسي في أغانيه، لكنه بقي فراتياً في الشكل والمبنى كما في أغنية (هي لي وياما لي) ما يعكس تماهي هذا الفنان مع التراث وذوبانه فيه لدرجة يصعب فصلهما عن بعض.
في أعوامه الأخيرة أخذ مشهور يبتعد عن الفن شيئاً فشيئاً، وبعد أن أدى فريضة الحج سنة 2004 ، أصبح ملتزماً دينياً واعتبر أن لونه غير قابل للتطوير أو التوزيع، ما أفسح المجال لفرق شابة أن تعيد تقديم أعماله و توزعها من غير أن تحصل على موافقته أو تنسبها إليه، وكان يبدي اعتراضاً على عملية إعادة التوزيع هذه لأنها غيرت من مقام الأغنية كما في (عالمايا) من العجم إلى البيات.
تم تكريمه في احتفالية يوم الثقافة التي أقامتها وزارة الثقافة السورية عام 2019، ولم يكن يومها قادراً على اعتلاء منصة التكريم فكرموه في مكانه وهو يذرف دموع التأثر والإمتنان، وكان هذا التكريم أبرز ما أثار الإهتمام في هذه الإحتفالية.