شارك
|

التكنولوجيا العابرة للحدود في خدمة «الإرهاب الجوّال»

تاريخ النشر : 2024-03-27

 

                                                                                                                                                                                                                                                         

 

 

كتب الصحفي والباحث د. منذر علي أحمد مقالة في صحيفة تشرين جاء فيها: 

 

أشعلت الحدود حروباً وأطفأتها، وحملت الأمان لشعوبها كما حملت الخراب.فهي وإن ارتبطت بمفهوم السيادة الوطنية عانت من أشكال الإرهاب الذي تصدّره الدول المجاورة بيدها أو بيد حلفائها، ولم تعد تلك الحدود تقف في وجه الإرهاب أو تحكم وجوده إذ أصبح عابراً لها محتكماً لأمر زعمائه ومصالحهم.                        

 


تطور الإرهاب وأدواته، وفي بعض الأحيان تغلب على المجتمعات غير المحصنة واستطاع اختراقها واختراق أبنائها وتجنيدهم عبر الاستخدام المحترف للتكنولوجيا المتطورة العابرة لكل أنواع الحدود، ولعل التطور التكنولوجي المتسارع ساهم إلى حدٍّ بعيد في اكتساب الإرهاب مظاهر دولية فلم تعد الحدود التقليدية قادرة على كبح جماح الإرهابيين والمنظمات الإرهابية.

 


لعلّ ما يلفت النظر هو التطور المستمر ليس في آليات وأفكار التنفيذ ولكن أيضاً في آليات التجنيد للإرهابيين، فالتنظيمات الإرهابية سعت بكل جهدها إلى الاستثمار في التكنولوجيا والاستفادة منها لتحقيق أهدافها الإجرامية فبدأت تستغل التكنولوجيا وأدوات التواصل الحديثة في البحث والتجنيد والتنفيذ والترويج والتمجيد لأفعالها الإرهابية، فالإرهابي «فريدون شمس الدين» الذي ألقت السلطات الروسية القبض عليه عقب مشاركته في العملية الإرهابية الأخيرة التي ضربت موسكو، كان قد نشر صوراً ومقاطع فيديو له بلغ عددها ثمانية منشورات في يوم واحد خلال فترة تواجده في مدينة اسطنبول التركية وذلك قبل شهر من تنفيذه مع بقية الإرهابيين العملية الإرهابية في روسيا.

 


وكان التحقيق الأولي قد أشار إلى أنّ الإرهابي «فريدون» أظهر أنه وصل من تركيا في 4 آذار الحالي، واللافت في الأمر هو ما ذكره بأنه تم تجنيده عبر» تلغرام» قبل شهر تقريباً، وعرض عليه من جنّدوه مبلغ 500 ألف روبل «نحو 5 آلاف دولار» مقابل تنفيذ عملية قتل عشوائي، أي أن عملية التجنيد وعملية دفع الرواتب ودفع تعويضات تنفيذ العمليات الإرهابية جميعها تجري عبر شبكات التواصل الاجتماعي، وهذا يطرح سؤالاً جوهرياً عن مدى مسؤولية ومقدرة تلك الشركات المالكة والمشغلة لتلك التطبيقات على الربط بين الأمور ومعرفة ما يجري في خفايا هذه الشبكة المظلمة من عمليات تقودها تنظيمات إرهابية، تحت مرأى ومتابعة من أجهزة استخبارات تلك الدول التي تملك صلاحيات الوصول إلى بياناتها وتنظيم خوارزميات تتبع ومتابعة أنشطة إرهابية محتملة، فالولايات المتحدة تزعم بأنها حذّرت روسيا من الهجمات، وروسيا تنفي أنها تلقت مثل ذلك التحذير، لا شك بأن من يملك المعلومة هو من يملك اليد الطولى والولايات المتحدة بفضل مقدراتها التكنولوجية وسيطرتها على معظم وسائل التواصل الاجتماعي وأنشطتها في العالم، أصبحت إلى حدٍّ كبير قادرة على التنبؤ ومعرفة نوايا وتحركات التنظيمات الإرهابية وبالتالي تملك القدرة على القيام بتحذير أصدقائها والتغافل عن تحذير أعدائها، وتركهم فريسة للارهابيين الذين يرسمون مخططاتهم في خبايا الشبكة المظلمة.

 


على مدار تاريخ التنظيمات الإرهابية يمكن أن نلاحظ بشكل عام بأن بعضها تبنّى إستراتيجية استهداف «العدو القريب» وبعضها لجأ إلى إستراتيجية استهداف «العدو البعيد»، ولعلّ هذا التبني كان شيئاً من البراغماتية عند الإرهابيين الذين يدركون بأنه يجب أن يكون لهم سند وداعم وموطئ قدم على الأرض الحقيقية، فسعوا إلى استرضاء الأطراف التي تؤيدهم أو تدعمهم وتنفيذ ما يخدمهم والامتناع حتى التمكن عن تنفيذ ما يضر مصالح مستضيفيهم ومشغِّليهم، فكانت بعض الدول بقصر نظر وسياسات خاطئة ترى في السلوك الإرهابي أمراً جيداً طالما أنه لا يضر بها ولا يؤذيها، وذهبت بعض الدول أبعد من ذلك عبر استخدام الإرهاب كأدوات سيطرة وتخويف وترهيب للجوار ولدول أخرى بعيدة عن حدودها، فتبنّي تنظيم «داعش» الإرهابي إستراتيجية «العدو القريب» كان بالاستناد إلى مفهوم جهاد التمكين والسيطرة المكانية وحصر ساحات القتال والمواجهة في الدول القريبة، بخلاف الإستراتيجية التي تبناها تنظيم «القاعدة» الإرهابي الذي كان يركز نشاطه في استهداف «العدو البعيد» من خلال «الجهاد» والهجمات، ولاحقاً بعد الهزائم التي تعرض لها تنظيم «داعش» لجأ إلى تعديل إستراتيجيته لتتناسب مع المرحلة الجديدة.

 


لم يوفر الإرهاب كبيراً أو صغيراً، ترك أطفالاً أيتاماً، وأمهات ثكالى، وزوجات أرامل، دمر بلداناً وشرّد عائلاتٍ وأنهى حيوات في أنحاء مختلفة من العالم، وعندما نذكر الإرهاب فإن أول ما يخطر في البال ما حصل في سورية في العقد الأخير، إذ عاث الإرهاب فساداً، لكن الخسائر الكبرى التي منيت بها التنظيمات الإرهابية، خاصة تنظيم «داعش»، على يد قوات الجيش العربي السوري وحلفائه دعته إلى تغيير إستراتيجية «العدو القريب» وقادته إلى تبني إستراتيجيات «العدو البعيد» وإن كان بأساليب جديدة مختلفة، فقد تبنّى إطلاق ما يعرف بـ«الذئاب المنفردة» التي تنفذ عمليات فردية وشبه عشوائية ضد مصالح الدول التي وضعت مهمة القضاء عليه هدفا لها.

 


سورية من أوائل الدول التي عانت من الإرهاب العابر للحدود، وكانت تؤكد في المحافل الدولية كافة خطورة الإرهاب خاصة العابر للحدود، وحذرت مرات عديدة من أن هذا الإرهاب سيفلت من عقاله، ولن تكون مسألة السيطرة عليه ممكنة في المستقبل، ولعلّ أصدق الكلمات هي تلك التي عبّر بها السيد الرئيس بشار الأسد ببرقية عزائه لنظيره الروسي فلاديمير بوتين بعد الهجوم الإرهابي على قاعة الحفلات «كروكوس سيتي» التي قال فيها: "ونحن إذ ندين هذا الفعل الوحشي وكل ما يرتكبه الإرهابيون من سفك للدماء في أي بقعة في العالم، فإننا نؤكد عزمنا على المضي معكم في حربنا المشتركة ضد الإرهاب والتطرف العابر للحدود."

 

لا شك في أن الإرهاب خطر شديد يحوم حول الأبرياء، والمذنبون ليسوا بمأمن من أخطاره أيضاً، ولا شك في أن من تآمر على الإنسانية ليقتلها ويشردها لن يحمل قيمةً تحتم عليه الوفاء لمن يدعمه.. اليوم أصاب الإرهاب دولاً تلعنه علناً وتحاربه وتحارب داعميه بشتى الطرائق، لكن في الغد قد تمتد يد الإرهاب إلى داعميه ومختلقيه، على الدول جميعها خيرها وشرها أن تقف في وجه عدو الإنسانية الأول.


 


عدد القراءات: 335