شارك
|

دير مار موسى الحبشي.. كنز تاريخي عتيق وموروث ديني عريق

تاريخ النشر : 2024-01-21

 

على أنقاض قلعة رومانية تعود للقرن الثاني الميلادي، وفي موقع مهيب يطل على واد سحيق يتصل ببادية تدمر من جهة، وبفلسطين من جهة أخرى، وَيُشْرِفُ بإطْلَالَةٍ سَاحِرَةٍ خَلَّابَةٍ عَلَى سهلٍ فَسِيْحِ الأَرْجَاءِ قابعا على سلسلة جبال القلمون السورية بمسافة 80 كم شمال دمشق و15 كم عن مدينة النبك وارتفاع 1320 م عن سطح البحر، يركن دير سرياني كاثوليكي قديم وعريق يعود إلى القرن الخامس أو السادس الميلادي. إنه دير مار موسى الحبشي...

 

 

يعتبر هذا الدير واحداً من أهم الأديرة والأوابد والمراكز السريانية في جبال القلمون، وقد ورد ذكره في مخطوطات سريانية عدة سبق بعضها التاريخ الهجري، منها مصحف سرياني نادر خط في هذا الدير سنة 575م في عهد أحد ملوك الغساسنة، الأمر الذي يدل على عراقة بنائه وتوغله في القدم.

 

 

تسمية دير مار موسى

 

سمي الدير بهذا الاسم تيمنا بالقديس موسى الحبشي حيث تروي الأسطورة المتداولة أنه في القرن السادس الميلادي ترك موسى حياة الترف والغنى باحثا عن الروحانية هاربا من والده الملك والذي كان ينوي تزويجه ووصل إلى دير مار يعقوب في سورية وعاش فيه (وهو يقع حاليًّا في قرية قارة التابعة لمحافظة ريف دمشق) وفيما بعد رغب القديس بالمزيد من التوحد والتنسك فقادته خطاه إلى هذا المكان حيث أقام في أحد الكهوف. وكان ذلك فاتحة الحياة الرهبانية في ذلك المكان المقفر من البادية. وقيل إنه استشهد على يد جنود بيزنطيين في أوائل القرن 7م فسمي الدير باسمه.

 

 

وصف دير مار موسى

 

"مرحباً بك في هذا المكان الروحي. الرجاء المحافظة على الصمت والهدوء والحشمة والنظافة والتزم السير في درب الدير". هذه العبارة هي أول ما يطالع الزائر لحظة وصوله إلى منطقة دير مار موسى الحبشي، حيث تطوف السكينة في كل زاوية فيه ليشكل مزيج الكلمات والمكان بما يحمله من طاقة روحانية عالية، تهيئة مناسبة لبداية رحلة روحية من نوع خاص.

 

 

بسبب بعده عن النبك ووعورة الطريق المؤدية إليه، لم يحظ بناء دير مار موسى الحبشي بالفن المعماري الهندسي على شاكلة الأديرة السريانية المعروفة وذلك بسبب صعوبة عملية نقل مواد البناء إليه. لكن ما يحتويه من زخارف ورسوم جدارية نادرة، صنعت منه شاهدا حيّا على حضارة سوريا وشعوبها الآرامية السريانية.

 


كان الدير في البداية عبارة عن برج بيزنطي للمراقبة يعود إلى القرن 5 أو 6 م ثم تحول إلى نواة للدير الحالي وهو ذو عمارة دفاعية فمدخله في الجدار الغربي صغير جدا وهو باب منحوت في الصخر لا يتعدى ارتفاعه 1م وربما لهذا رمزية تتعلق بإدخال التواضع والخشوع والرهبة إلى قلب الزائر من جهة، ولفرض جو من الأمان وحماية من السلب والاعتداء من قبل اللصوص وقطاع الطرق من جهة أخرى. يلي المدخل دهليز معتم، وبعد ذلك غرف صغيرة، ثم الكنيسة، فشرفة.

 


أما بالنسبة للغرف فهي موزعة على طابقين فوق سطح الجبل وثلاثة طوابق حُفرت تحت الأرض. وكانت مياه الأمطار تُجمع في خزانات وتتوزع حول الدير ثم تُنقل إلى الداخل للاستفادة منها طوال العام.

 

 

البناء المعماري لدير مار موسى


شيد الدير في القرن السادس ثم تم تجديده في عام 1556م وصار كرسياً أسقفياً بعد ذلك . وفي ثمانينيّات القرن المنصرم، بدأت أعمال ترميم الدير، بتعاون مشترك بين أبناء رعية النبك للسريان الكاثوليك، والمديرية العامة للآثار والمتاحف في سورية بالإضافة إلى خبراء آثار إيطاليّين.

 


في بداية الدير رواق يتفرع عنه إلى اليسار غرفة واسعة تحولت إلى متحف خاص بلقى الدير وآثاره، ويلي هذا الرواق رواق آخر يقع في وسطه باب كنيسة الدير، ويؤدي إلى باحة تبلغ مساحتها 160 متراً مربعاً مكشوفة من جهة الشرق على سهل تدمر، والرواقان وباحة الدير مع الغرفتين خصصتا للمطبخ والطعام، وخصصت ثالثة لبيت الدرج النازل إلى القبو الجنوبي الشرقي.

 

 

يتألف القبو الجنوبي الشرقي من غرفتين بينهما باب يوصل إلى باحة الدير، والقبو الشمالي الشرقي واسع المساحة يقع بجانب القبو الجنوبي الشرقي ويتألف من ثلاث طبقات:

 

• الطبقة السفلى تتكون من باحة صغيرة تقع بين الصخور وجدار الدير الشرقي.

 

•  الطبقة الثانية تتكون من غرفة كبيرة تتصل بالطبقة السفلى بدرج، وبجوارها غرفة صغيرة حولت إلى حمام.

 

• الطبقة الثالثة مؤلفة من غرفة كبيرة وغرفتين صغيرتين تتصلان مع الطبقة الثانية بسلم.

 

ويتألف الطابق الأول للدير من غرفة منفردة في الجهة الشمالية يصعد إليها بسلم خشبي ومع أربع غرف وحمام تقع في الجهة الجنوبية، والطابق الثاني يحتوي على ثلاث غرف سقوفها جميعا من الخشب، أما السطح فيحيط به جدار حجري تخترقه فتحات لرمي السهام.

 


كنيسة دير مار موسى

 

  تقع شمالي الدير ويعود بناؤها إلى منتصف القرن الحادي عشر حيث بنيت عام 1058م وشكلها مربع طول ضلعه 10 م. وهي مقسومة إلى قسمين: القسم الأول هو قدس الأقداس، وهو عبارة عن المحراب مع الجدار الفاصل؛ والقسم الثاني مكون من ثلاثة أروقة يفصل بينها صفان من الأعمدة.

 


يعلو بابها صلبانٌا منقوشة ومن هذا الباب نصل إلى رواق الكنيسة الجنوبي، فالبناء يحتوي على ثلاثة أروقة تمتد من الغرب إلى الشرق ، ويرتفع الرواق الأوسط منتيهاً شرقاً بمحراب كبير تتوجه نصف قبة تعلوها نافذة كبيرة ،أما الربع الشرقي من الرواق الأوسط فهو على حاجز من الخشب والحجر يرتفع عن مستوى أرض الكنيسة بمقدار ثلاث درجات ويفصل قدس الأقداس أو الهيكل عن صحن الكنيسة .

 


والجدير بالذكر أن نقوش الصلبان على الأعمدة والجدران تعود إلى تاريخ بناء الكنيسة نفسه وتمثل غالبيتها صليب النور.

 


زينت جدران الكنيسة صور من نمط الفريسكو، رُسمت فوق بعضها البعض في ثلاث طبقات ، وهناك كتابة تبين لنا تاريخ الرسم  ، تعود إلى السنة 1058-1095م

 


وتعتبر رسومات الفريسكو المديدة التي تغطي جدار الكنيسة من أغنى أمثلة الفن المسيحي المحلي. وهي مكونة من ثلاث طبقات فوق بعضها، جميعها نُفذت في فترة حكم السلاجقة وأوليائهم الأتابكة وبني أيّوب.

 

 

وقد سمحت التساقطات التي أصابت الطبقات الثلاث في عدة أماكن بالاطلاع على تقنياتها ومواضيع صورها وتم الحفاظ على كتابات تسجيل التاريخ لجميعها، مكتوبة بالعربية، مما يدل على تبنّي سكان المنطقة للغة العربية في تعبيرهم عن المسيحية.

 

 

• تشير الطبقة الأقدم إلى التاريخ 1073-1074م. ولم يبقَ منها الكثير ولكنها تظهر حيوية تدل على استمرارية الفن الهيليني المسيحي السوري. حيث نرى فيها أشكالاً هندسية مع مربعات بيضاء اللون وربما تمثل خيمة العهد وحجاب قدس الأقداس. وهناك صورة أخرى قد تمثل إيليا النبي صاعداً إلى السماء بمركبةٍ نارية وبيمينه يُعطي رداءه إلى تلميذه اليشاع النبي .

 

 

• الطبقة الثانية أحدث بقليل من السابقة، وهي مؤرَّخة بسنة 1095م. ومن أهم ما وُجد منها ما يقع على الجدار الشرقي من الرواق الشمالي ويمثل مشهد معمودية يسوع على يد يوحنا المعمدان إلى جانبه نجد صور سمعان العامودي. وتتميز رسومات الطبقة الثانية برهافة الحس الفني الروحاني وبالأسلوب المتبع الذي يعكس تأثير تطور الفن البيزنطي في المنطقة .

 

 

• أما الطبقة الثالثة فهي الطبقة الظاهرة، وتتواصل رسوماتها على جميع جدران الكنيسة. وتمثل بقاءً فريداً لفن مسيحي من هذا العصر شامل التعبير، وما زال موجوداً في موقعه الأصلي مما يتيح فرصة نادرة لدراسة برنامجها التصويري.

 

 

حيث تزين جدران  كنيسة مار موسى الحبشي صورٌ وجداريات ذات معنى لاهوتي واضح منها مثلاً صورة البشارة التي يظهر فيها شروق الشمس المشير إلى أن المسيح ، شمس البر . كما نجد رسماً ليسوع المسيح الضابط الكل ، وصور الرسل منهم بطرس وبولس وصورة الإنجيليين الأربعة متى ، مرقس ، يوحنا ، لوقا .

 

 

يوجد مثال مميز على جدار النافذة الشرقية حيث رُسمت لوحة دقيقة عن يوم الحساب أو (الدينونة) حيث نرى فيها المسيح الديان مرسوما في أعلى اللوحة مقابل لوحة البشارة، كما يظهر في اللوحة المسيح يسلّم بطرس مفاتيح الملكوت وعن يساره بولس الرسول، ويظهر في الصورة مذبح عليه صليب في وسطه إكليل من الشوك. تقابل هذه اللوحة مباشرة لوحة البشارة على جدار النافذة الشرقية.

 


وفيما يخص الأسلوب، توحي هذه اللوحات بطابع سرياني وقد أُنجزت ببساطة وعفوية.

 


إن تاريخ هذه الطبقة غير واضح، فقد رجَّحت إحدى القراءات أنه 1504 حسب التأريخ السلوقي، أي عام 1192م ورجَّحت قراءة أخرى العام 1208م والاحتمالان يعيدان الرسومات لفترة العصر الأيّوبي.

 


مكتبة دير مار موسى

 

يضم الدير مكتبة زاخرة وغنية بآلاف المخطوطات السريانية التاريخية ومنها إنجيل نفيس كتب بالخط السطرنجيلي السرياني بالإضافة إلى عدد كبير من الأناجيل النادرة التي كتب قسم منها على الرق. وقد نقل عدد كبير من هذه المخطوطات إلى عواصم أوروبا وبلاد الشرق لتتصدر متاحفها ومكتباتها، مثل مخطوط لمار أيوانيس الذهبي الموجود في خزانة المتحف البريطاني بلندن، ومخطوطين لصلوات الصيام الأربعيني بمكتبة باريس وغيرها الكثير.

 


مغارات دير مار موسى

 

يحيط بالدير كهوف عدة إلى جانب مغارة واسعة محفورة في الصخر تبعد 50 متراً عن الدير، يعتقد أنها كانت مخصصة لإقامة النساك والزهاد والمتعبدين، ثم أصبحت خاصة بحفظ مؤونة الدير وتبدو أمامها مغارة أخرى يطلق عليها اسم "مقبرة الراهب" لاحتوائها على عظام يعتقد أنها لناسك، وقد تحولت فيما بعد إلى مزار يقصده السياح.

 

 

وهناك مغارة تسمى مغارة الحائك، وسميت بهذا الاسم لقيام نساكها بحياكة الألبسة الخاصة بهم أثناء فراغهم. تقع داخل جرف صخري في الجنوب الشرقي من الدير ويتم الوصول إليها من طرق تسلق الجبل، وبداخلها رواقان وفي أسفل الجرف خزان ماء محفور بالصخر.

 


كما كرست مغارة لذكر أصحاب الكهف القصة المشتركة في التراثين الإسلامي والمسيحي، وتحوي المغارة لوحات عدة تخلد قصة الفتية السبعة النائمين والمذكورة أسماؤهم على لوح بالترتيب، مكسلمينا ويمليخا ومارطونس ويؤانس وديونيسيوس وسرافيون وأنطونيوس، وإلى جانبها لوح مدون عليه، "بسم الله الرحمن الرحيم. هنا ذكرى للفتية الراقدين وكانوا من أبناء إبراهيم بالمسيح مؤمنين. استشهدوا عندما أغلق عليهم الكهف الذي التجؤوا إليه في مدينة أفسس فحفظهم الله فيه سنين عدة ثم أيقظهم ربهم فظهروا أحياء لمن أهل المدينة بالقيامة. وهم شفعاء لمن يشاركهم رجاءهم. (رقدوا في عهد القيصر الروماني داقيوس واستيقظوا في عهد القيصر ثيودوسيوس)".

 

 


وأخيرا ظل دير مار موسى الحبشي مزدهرا منذ تأسيسه حتى القرن الثامن عشر والدليل على ذلك بعض المخطوطات والوثائق والجداريات التي وجدت في الدير في تلك الفترة. كما أننا نجد أيقونات تحمل صورة مار موسى الحبشي وكأنه فارس يمتطي حصانا أحمر اللون.

 

 

والجدير بالذكر أن أول من قدم إلى الدير ليضيء شمعة الحياة الرهبانية هو الشماس يعقوب مراد من أبرشية حلب ومن بعده توافد الأخوة والأخوات الذين جاؤوا من بلدان مختلفة ملتزمين الحياة المكرسة بالعمل والصلاة واستقبال الزوار وتقديم المساعدة الروحية لهم وقد انتهجت هذه الجماعة الحاضرة في كنف دير مار موسى الحبشي في صلواتها، ليتورجية واحدة ، هي الليتورجية الأنطاكية المستخدمة في الكنيسة السريانية الانطاكية.

 

 

يقصد المؤمنون دير ما موسى كي يتنسموا نسمات التقوى والفضيلة كما يقصده الفنانون وعشاق الجداريات لما فيه من كنوز جدارية ونقوش فنية رائعة الجمال تتزين بها حوائط الدير.

 

 رزان محمد

 

     

 



 


عدد القراءات: 7237